أخي الكريم : شكرا على سؤالك ، وإليك الجواب :
لقد كان زمن تصدر نافع للإقراء ممتدا جدا ، يقرُب من سبعة عقود ، وقد التف حوله خلال هذا العهد الطويل من طلاب القراءة عدد لا يحصى .
ومن المؤكد أن احتكاكه الدائم بالقراء ، ومراسه الطويل للإقراء ، قد وسَّع من مداركه مع الزمن ، ونمّى من معرفته ، وأغنى من خبرته باللغات والأساليب التي تكلمت بها العرب الفصحاء في حواضـرها وبواديـها ، وقرأت بها القراء في الأمصار ، فكان يتقبل بصدر رحب لهجة الراوي وروايته ، طالما أنها لا تجافي الفصاحة المطلوبة في القراءة ، ولا تصادم النقل الصحيح ، وانطلاقا من هذا المبدأ لم يكن يجترئ على رد قراءة لغيره ، أو يتعصب لاختياره ، بل كان يسهل القرآن لمن قرأ عليه ، إلا أن يقول له أحـد : أريد قراءتـك ، وهذا ما جعـل معلى بن دحية يقول :" سافرت بكتاب الليث إلى نافع لأقرأ عليـه ، فوجدتـه يقرئ الناس بجميع القراءات ، فقلت له : يا أبا رؤيم ما هذا ؟ فقال لي: سبحـان الله ! أأُحرَم ثواب القـرآن؟ أنا أُقرئ الناس بجميع القراءات ، حتى إذا كان من يريد حرفي أقرأته به "ومعنى هذا أنه كان يترك القارئ يقرأ عليه بما اعتاده من الوجوه تيسيرا عليه ، فتكون قراءته عليه بذلك رواية على سبيل الإقرار، لا على سبيل الاختيار ، وبذلك تختلف الروايات عنه باختلاف العارضين .
بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه ، لأنه قد تستعصي على القارئ بعض النواحي الصوتية التي لا تتوفر في لهجته ... إذِ القبائل العربية كثيرة، وبيئاتها مختلفة ، وطرائق النطق عندهم متفاوتة .
ويدخل في هذا المنحى من التيسير على العارضين ما جاء عن نافع من قوله بالوجهين أو أكثر في أداء الحرف الواحد ، وتخييره القارئ أحيانا في القراءة بأيها شاء ، فقد روى عنه قالون قوله : " لا تبال كيف قرأت (بسْطَةٌ) و(يَبْسُطُ) بالصاد أو بالسين".
ومن المقطوع به أن مجيء هذا عن نافع وأمثاله من الأئمة ، ليس مرده إلى ضعف ضبط الرواة ، إنما مرده إلى الاطلاع الواسع على وجوه القراءة وأحوال الأداء ، ما دام خاضعا لأركان القراءة الصحيحة . والله أعلم .